سورة مريم - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} يريد عليه الصلاة والسلام أني لست ممن يُتوقّع منه ما توهّمتِ من الشر، وإنما أنا رسولُ ربك الذي استعذتِ به {لأَهَبَ لَكِ غلاما} أي لأكون سبباً في هبته بالنفخ في الدِّرْع، ويجوز أن يكون ذلك حكاية لقوله تعالى ويؤيده القراءة بالياء، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتِها والإشعارِ بعلة الحكم، فإن هبةَ الغلامِ لها من أحكام تربيتها، وفي بعض المصاحفِ أمرَني أن أهبَ لك غلاماً {زَكِيّاً} طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح.
{قَالَتْ أنى يَكُونُ لِى غلام} كما وصفت {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} أي والحال أنه لم يباشرْني بالنكاح رجلٌ، وإنما قيل بشرٌ مبالغةً في بيان تنزُّهها من مبادىء الولادة {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} عطف على لم يمسَسْني داخلٌ معه في حكم الحالية مفصِحٌ عن كون المِساس عبارةً عن المباشرة بالنكاح أي ولم أكن فاجرةً تبغي الرجالَ، وهي فَعولٌ بمعنى الفاعل أصلها بغُويٌ فأدغمت الواوُ بعد قلبها ياء في الياء وكسرت الغين للياء، وقيل: هي فعيل بمعنى الفاعل، وإلا لقيل: بَغُوٌّ كما يقال: فلان نَهُوٌّ عن المنكر، وإنما لم تلحَقْه التاءُ لأنها من باب النسب كطالق أو بمعنى المفعول أي يبغيها الرجالُ للفجور بها.
{قَالَ} أي الملَكُ تقريراً لمقالته وتحقيقاً لها {كذلك} أي الأمرُ كما قلتُ لك، وقوله تعالى: {قَالَ رَبُّكِ} الخ، استئنافٌ مقرِّر له أي قال ربك الذي أرسلني إليك: {هُوَ} أي ما ذكرتُ لك من هبة الغلامِ من غير أن يمسَّك بشرٌ أصلاً {عَلَىَّ} خاصة {هَيّنٌ} وإن كان مستحيلاً عادة لما أني لا أحتاج إلى الأسباب والوسائطِ، وقوله تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} إما علةٌ لمعلَّلٍ محذوف أي ولنجعل وهْبَ الغلام آيةً لهم وبرهاناً يستدلون به على كمال قدرتِنا نفعل ذلك، أو معطوفٌ على علة أخرى مضمَرةٍ أي لنبين به عِظَمَ قدرتِنا ولنجعله آية الخ، والواو على الأول اعتراضيةٌ والالتفاتُ إلى نون العظمة لإظهار كمالِ الجلالةِ {وَرَحْمَةً} عظيمةً كائنة {مِنَّا} عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده. {وَكَانَ} ذلك {أَمْراً مَّقْضِيّاً} مُحكماً قد تعلق به قضاؤنا الأزليُّ أو قُدّر وسُطّر في اللوح لا بد من جريانه عليك البتةَ، أو كان أمراً حقيقاً بأن يقضى ويُفعلَ لتضمنّه حِكَماً بالغة.


{فَحَمَلَتْهُ} بأن نفخ جبريلُ عليه الصلاة والسلام في دِرعها فدخلت النفخةُ في جوفها، قيل: إنه عليه الصلاة والسلام رفع دِرعَها فنفخ في جيبه فحمَلت، وقيل: نفخ عن بُعد فوصل الريحُ إليها فحملت في الحال، وقيل: إن النفخةَ كانت في فيها وكانت مدةُ حملها سبعةَ أشهر، وقيل: ثمانيةً، ولم يعِشْ مولود وُضع لثمانية أشهر غيرُه، وقيل: تسعةَ أشهرٍ، وقيل: ثلاثَ ساعات، وقيل: ساعة كما حملت وضعتْه وسنُّها حينئذ ثلاثَ عشْرةَ سنةً، وقيل: عشرُ سنين وقد حاضت حيضتين {فانتبذت بِهِ} أي فاعتزلت وهو في بطنها كما في قوله:
تدوس بنا الجماجمَ والتّريبا ***
فالجارُّ والمجرور في حيز النصب على الحالية أي فانتبذت ملتبسةً به {مَكَاناً قَصِيّاً} بعيداً من أهلها وراء الجبل، وقيل: أقصى الدارِ وهو الأنسبُ لقِصرَ مدة الحمل.
{فَأَجَاءهَا المخاض} أي فألجأها وهو في الأصل منقول من جاء لكنه لم يستعمل في غيره كآتى في أعطي، وقرئ: {المِخاض} بكسر الميم وكلاهما مصدرُ مخِضَت المرأةُ إذا تحرك الولدُ في بطنها للخروج {إلى جِذْعِ النخلة} لتستتر به وتعتمد عليه عند الوِلادة وهو ما بين العِرْق والغصن، وكانت نخلةً يابسةً لا رأس لها ولا خُضرة وكان الوقت شتاءً، والتعريفُ إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثمةَ غيرُها وكانت كالمتعالم عند الناس، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليُريَها من آياتها ما يسكّن رَوْعتها ويطعمها الرُّطَبَ الذي هو خُرْسةُ النُّفَساءِ الموافقةُ لها {قَالَتْ ياليتنى مّتَّ} بكسر الميم من مات يمات كخِفت، وقرئ بضمها من مات يموت {قَبْلَ هذا} أي هذا الوقتِ الذي لقِيتُ فيه ما لقِيت، وإنما قالته مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريلَ عليه السلام من الوعد الكريم استحياءً من الناس وخوفاً من لائمتهم، أو حِذاراً من وقوع الناس في المعصية بما تكلموا فيها، أو جرياً على سَنن الصالحين عند اشتدادِ الأمر عليهم كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تِبْنةً من الأرض فقال: يا ليتنى هذه التبنةُ ولم أكن شيئاً، وعن بلال أنه قال: ليت بلالاً لم تلده أمُّه {وَكُنتُ نَسْياً} أي شيئاً تافهاً شأنُه أن يُنسى ولا يُعتدَّ به أصلاً، وقرئ بالكسر، قيل: هما لغتان في ذلك كالوتر، وقيل: هو بالكسر اسمٌ لما يُنسى كالنِّقْض اسمٌ لما يُنقض وبالفتح مصدرٌ سُمِّي به المفعولُ مبالغةً، وقرئ بهما مهموزاً من نسأتُ اللبن إذا صببتُ عليه الماء فصار مستهلَكاً فيه، وقرئ: {نساً} كعصاً {مَّنسِيّاً} لا يخطُر ببال أحد من الناس وهو نعتٌ للمبالغة، وقرئ بكسر الميم إتباعاً له بالسين.


{فَنَادَاهَا} أي جبريلُ عليه السلام {مِن تَحْتِهَا} قيل: إنه كان يقبل الولد، وقيل: من تحتها أي من مكان أسفلَ منها تحت الأكمة، وقيل: من تحت النخلة، وقيل: ناداها عيسى عليه السلام، وقرئ: {فخاطبها} مَنْ تحتَها بفتح الميم {أَن لا تَحْزَنِى} أي لا تحزني، على أن «أنْ» مفسرةٌ، أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ} أي بمكان أسفل منك، وقيل: تحت أمرِك إنْ أمرْتِ بالجري أُجريَ وأن أمرت بالإمساك أُمسِك {سَرِيّاً} أي نهراً صغيراً حسبما روي مرفوعاً، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن جبريلَ عليه السلام ضرب برجله الأرضَ فظهرت عينُ ماء عذبٍ فجرى جدْولاً. وقيل: فعله عيسى عليه السلام. وقيل: كان هناك نهر يابسٌ أجرى الله عز وجل فيه الماءَ حينئذ كما فعل مثلَه بالنخلة، فإنها كانت نخلةً يابسة لا رأسَ لها ولا ورق فضلاً عن الثمر وكان الوقت شتاءً، فجعل الله لها إذ ذاك رأساً وخُوصاً وثمراً، وقيل: كان هناك ماءٌ جارٍ. والأول هو الموافقُ لمقام بيان ظهورِ الخوارق والمتبادرُ من النظم الكريم، وقيل: سرياً أي سيداً نبياً رفيعَ الشأن جليلاً وهو عيسى عليه السلام، فالتنوينُ للتفخيم والجملةُ للتعليل لانتفاء الحزْنِ المفهوم من النهي عنه، والتعرضُ لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيدِ التعليل وتكميلِ التسلية.
{وهزي} هزُّ الشيء تحريكُه إلى الجهات المتقابلة تحريكاً عنيفاً متدارِكاً، والمرادُ هاهنا ما كان منه بطريق الجذبِ والدفعِ لقوله تعالى: {إِلَيْكَ} أي إلى جهتك والباء في قوله عز وعلا: {بِجِذْعِ النخلة} صلةٌ للتأكيد كما في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} الخ، قال الفراء: تقول العرب: هَزّه وهزّ بِه وأخذ الخطامَ وأخذ بالخطام، أو لإلصاق الفعل بمدخولها أي افعلي الهزَّ بجذعها {تساقط} أي تُسقِطِ النخلة {عَلَيْكَ} إسقاطاً متواتراً حسب تواترِ الهزِّ، وقرئ: {تُسقِطْ} و{يُسقِط} من الإسقاط بالتاء والياء، وتتساقطْ بإظهار التاءين، وتَساقطْ بطرح الثانية، وتسّاقَطْ بإدغامها في السين، ويَسّاقط بالياء كذلك، وتسقُطْ ويسقُطْ من السقوط على أن التاء في الكل للنخلة والياء للجذع، وقوله تعالى: {رُطَباً} على القراءات الأُوَل مفعولٌ وعلى الست البواقي تمييزٌ، وقوله تعالى: {جَنِيّاً} صفةٌ له وهو ما قُطع قبل يَبْسه فعل بمعنى مفعول، أي رطباً مجنياً أي صالحاً للاجتناء، وقيل: بمعنى فاعل أي طرياً طيباً، وقرئ: {جِنياً} بكسر الجيم للاتباع.
{فَكُلِى واشربى} أي ذلك الرطبَ وماءَ السَّريِّ أو من الرطب وعصيرِه {وَقَرّى عَيْناً} وطِيبي نفساً وارفضي عنها ما أحزنك وأهمك، فإنه تعالى قد نزّه ساحتَك عما اختلج في صدور المتعبدين بالأحكام العادية بأن أظهر لهم من البسائط العنصريةِ والمركباتِ النباتية ما يخرِق العاداتِ التكوينيةَ ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرِك، وقرئ: {وقِرّي} بكسر القاف وهي لغة نجد واشتقاقُه من القرار، فإن العينَ إذا رأت ما يسرّ النفسَ سكنت إليه من النظر إلى غيره، أو من القَرّ فإن دمعةَ السرور باردةٌ ودمعةَ الحُزن حارة، ولذلك يقال: قُرّة العين وسُخْنةُ العين للمحبوب والمكروه {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} أي آدمياً كائناً مَنْ كان، وقرئ: {تَرئِنّ} على لغة من يقول: لبّأْتُ بالحج لما بين الهمزة والياءِ من التآخي {فَقُولِى} له إن استنطقك {إِنّى نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} أي {صمتاً} وقد قرئ كذلك، أو صياماً وكان صيامُهم بالسكوت {فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً} أي بعد أن أخبرتُكم بنذري وإنما أكلم الملائكةَ وأناجي ربي، وقيل: أُمِرت بأن تخبرَ بنذرها بالإشارة وهو الأظهرُ، قال الفراء: العربُ تسمِّي كلَّ ما وصل إلى الإنسان كلاماً بأي طريق وصَل ما لم يؤكَّد بالمصدر، فإذا أُكّد لم يكن إلا حقيقةَ الكلام، وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلةِ السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام، فإنه نصٌّ قاطعٌ في قطع الطعن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8